مر على ظهور اللسانيات العامة وتوظيفها في مختلف مجالات العلوم الإنسانية زمن غير قصير. وبالرغم مما تتوافر عليه المكتبات الأجنبية من مؤلفات هامة تعرف بهذا النوع من الدرس اللغوي الحديث وتعرض نتائج تطبيقاته في مجال دراسة اللغة وغيرها، فإن المكتبة العربية لا تقدم للقارئ العربي ما يسعفه على متابعة تفاصيل هذا العلم والمنهج المتبع فيه في تشعباته وتفريعاته العامة. صحيح أننا نملك بعض الكتابات اللسانية العربية المتفاوتة الأهمية التي تقدم بعضا من ملامح هذه اللسانيات. غير أن ما يعرض يرد مرتبطا، إما بقضايا فلسفية عامة مثل، الدراسة الهامة والرائدة لزكريا إبراهيم "مشكلة البنية"[1] "ودراسة فؤاد زكريا "الجذور الفلسفية للبنائية"[2]، وإما بقضايا أدبية كما في دراسة صلاح فضل"النظرية البنائية"[3]. وثمة في الثقافة العربية الحديثة بعض النصوص اللسانية والمقالات المترجمة في مؤلفات أخرى مثل البنيوية للحناش[4]. ويعد عمل مبارك حنون[5] متميزا في تقديم أهم أفكار مؤسس اللسانيات الحديثة.
وليس بإمكان المتتبع للسانيات في العالم العربي أن ينكر جهود كثير من الرواد أمثال تمام حسان وإبراهيم أنيس وكمال محمد بشر وأنيس فريحه وأحمد مختار عمر وريمون طحان.. الذين قدموا للمكتبة اللغوية العربية العديد من الدراسات والمقدمات النظرية والتطبيقية في اللسانيات الحديثة، إما بصفة عامة، وإما في مستوى معين من التحليل اللساني كالأصوات والدلالة، وهي كلها كتابات مفيدة، رغم أنها لم تقف دائما عند ما يحتاجه الطالب أو المبتدئ.
ما يمكن أن تؤاخذ عليه كثير من هذه الدراسات الرائدة وغيرها هو إما تكرارها الممل للعديد من الأمور اللغوية التي لم تعد ذات أهمية في الدرس اللساني العام، وإما لطابعها الانتقائي في التعامل مع لسانيات معينة، أو انتقاء مفاهيم معينة من اللسانيات العامة دون تبرير نظري أو منهجي، وإما طابعها العام الذي لا يراعي اهتمام القارئ ومستواه ومتابعة القضايا اللسانية في أصولها وتطوراتها، والربط بين أوليات اللسانيات في بعدها النظري والمنهجي العام.
وليس في نيتنا سد الفراغ المهول الذي تشكو منه الثقافة العربية في مجال الكتب التي تعرف باللسانيات العامة أو الادعاء بأن هذا المؤلف أفضل من سابقيه، ولكنه يطمح ما أمكن إلى تجنب ما نراه سلبيا فيها غير مترددين في الأخذ منها[6] كلما بدا لنا ذلك مفيدا بالنسبة إلى القارئ العربي، لاسيما وأنه يتوجه إلى فئة محددة من القراء هم الطلبة المبتدئون في اللسانيات أو الراغبون في استثمارها في مجالات معرفية أخرى كالأدب والنقد وغيرهما وطلبة علوم التربية وجمهور المثقفين.
لقد حاولنا الوقوف على بعض الأسس الفكرية والمنهجية التي قام عليها ما اصطلح عليه بـ"اللسانيات العامة" وعلى أهم الموضوعات المتصلة بها وليس كلها (ومن هنا ورود حرف الجر "في" ضمن عنوان هذا الكتاب) أو التي يتعين معرفتها في حقل اللسانيات العامة. ولقد حاولنا قدر المستطاع ألا نعرض للموضوعات التي استهلكت في العديد من الكتابات اللسانية العربية مثل نشأة اللغة والأسر اللغوية والتعريف بفروع اللسانيات، وبمستويات البحث اللساني، ولاسيما ما يتعلق بعلم الأصوات. فهذه الموضوعات وما يشبهها متوافرة باللغة العربية، وبالتالي لا نرى داعيا لتكرار القول فيها. وقد اتجهنا في إعداد هذا الكتاب نحو الجمع بين العمق والتبسيط، وبين المتابعة التاريخية والتقديم الوصفي العام للقضايا اللسانيات العامة من جهة، وللمفاهيم النظرية والإجرائية من جهة ثانية. وقد راعينا في التقديم كل عناصر التبسيط والتوضيح والتمثيل وإعادة الأفكار والتذكير بها بعبارات مختلفة كلما دعت الضرورة إلى ذلك دون الإخلال بالدقة المطلوبة والأمانة العلمية.
ولا يسعني في الختام إلا أن أشكر أفواج طلبة شعبة اللغة العربية بكلية الآداب الدار البيضاء عين الشق تخصص لسانيات، الذين شاركوا في تلقي أصل هذا الكتاب على مدى أزيد من عقدين من الزمن.كما أتوجه بالشكر الجزيل للأستاذ حافظ إسماعيلي علوي أستاذ اللسانيات بكلية الآداب أكادير/المغرب على تشجيعه ودعمه لنشر هذا الكتاب وعلى ما قدمه من مساعدات تقنية في إعداده وإخراجه إلى القارئ.
1 - زكريا إبراهيم: مشكلة البنية، مكتبة مصر، القاهرة، دون تاريخ (منتصف السبعينات في تقديرنا)
2 -فؤاد زكريا، الجذور الفلسفية للبنائية، حوليات كلية الآداب، الحولية الأولى، الكويت 1980.
3 -صلاح فضل، النظرية البنائية في النقد الأدبي، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة 1977/1980
4 محمد الحناش، البنيوية، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء1980.
مدخل إلى السيميوطيقا إشراف سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، منشورات عيون المقالات الدار البيضاء ،طبعة 2/ الأولى القاهرة 1986
5- مبارك حنون، مدخل للسانيات سوسور، دار توبقال، الدار البيضاء 1987.
6- لاشك أن بعض المؤلفات العربية التي صدرت في السنوات الأخيرة حققت قفزة نوعية في المضامين النظرية والمنهجية التي تكلفت بتقديم وأخص بالذكر:
- صالح الكشو: مدخل في اللسانيات، الدار العربية للكتاب، تونس
- محمد محمد يونس علي: مدخل إلى اللسانيات، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2004.
- محي الدين محسب: انفتاح النسق اللساني، دراسة في التداخل الاختصاصي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2008.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق