د.عبد المجيد شكير(**)
عندما فتحت – على الحاسوب - نص "جنرال الجيش الميت" للمسرحي الليبي الصديق عبد الباسط أحمد أبومزيريق، وتأملت الصفحة الأولى حيث العنوان والإشارة أن النص معد عن رواية تحمل العنوان ذاته للروائي الألباني إسماعيل كاداريه. كان أول سؤال طرحته على نفسي هو: هل يدرك عبد الباسط ـ وهو يقبل على هذه المغامرة ـ أي خطورة يركب؟.. صحيح أن الجرأة أمر مطلوب في أي ممارسة إبداعية، بل يمكن أن تصل هذه الجرأة حد المغامرة المجهولة العواقب.. لكنها هنا تصير جرأة لا تخلو من توجس حين يبدو الأمر وكأنه تجاسر على عمل روائي ضخم لكاتب عظيم من حجم إسماعيل كاداريه بمضمون عميق لا تضبطه حدود التاريخ والجغرافيا رغم أن صاحبه ركز على تبعات الحرب الإيطالية على ألبانيا.. وسرعان ما بدأ هذا التوجس يتراجع بمجرد أن ألقيت نظرة على الصفحة الثانية من مخطوطة عبد الباسط حيث حدد شخصيات نصه المسرحي؛ فأدركت من خلال الاعتناء بتفاصيل الشخصيات، وطريقة اختزالها، أن وضوحا في الرؤية يقف قاعدة صلبة في اشتغال عبد الباسط.. ما كان له أن يقدم ترتيبا لهذه الشخصيات بهذه الدقة، وما كان له أن يمعن في تفاصيل خصائصها لولا هذه الرؤية المسبقة التي شكلت مرجعية في تعامله مع الرواية.. وجاءت الصفحة الثالثة المتضمنة للملاحظات الإخراجية لتؤكد وجود هذه الرؤية الدقيقة المستوعبة للرواية والمفصحة عن نية عبد الباسط لـ"تهجيرها" نحو المسرح.. ولأني معتاد
على حالات التوجس، ظل شك لعين يراودني ـ مع أن بعض الظن إثم ـ في قدرة عبد الباسط على ردم الهوة بين شكلين إبداعيين قائمي الذات.. الرواية والمسرح.. ثم كيف يمكن تذويب عمل ضخم (الرواية) من خمسة وعشرين فصلا وثلاثمائة وست وثلاثين صفحة في ثنايا نص مسرحي من ثلاث لوحات دون أن تفقد الرواية روحها وعمقها؟.. وكيف المرور من سرد حكائي وصفي شديد الجزئيات والتفاصيل إلى درامية حوارية تحافظ على نسغ النص الروائي دون أن تفقد خصوصيتها المسرحية؟..
كانت الأسئلة تلك ملحةً وأنا أقلب صفحات النص عبر شاشة الحاسوب، لكن سرعان ما "سافرت" مع شخصيات النص المسرحي لتتلاشى كل الأسئلة السالفة ويتبدد كل التوجس "الآثم".. نسيت أني أمام نص معد عن عمل روائي.. كنت، فعلا، أمام نص مسرحي خالص التأليف ذوَّب فيه مؤلِّفه نسغ النص الروائي وجعله يتوارى خلف لغة شفافة انسيابية وسلسة، وشاعرية أحيانا.. وخلف شخصيات منحوتة بدقة مسرحية امتلكت خصائصها الدرامية لتؤشر على لعب تمثيلي محتمل خالص التفاصيل والمسارات.. وخلف بناء درامي يؤشر على حس دراماتورجي ذي تجربة، يضع في اعتباره خصوصية الخشبة واشتراطاتها وإكراهاتها أيضا، لدرجة أن النص صار بنية درامية يتداخل فيها اشتغال الدراماتورج باشتغال المخرج.. وحتى على مستوى المضمون،
فقد نجح النص المسرحي في إخراج الرواية من إطارها الثنائي (إيطاليا ـ ألبانيا) إلى المطلق الذي لا يرتبط ببيئة محددة في التاريخ والجغرافيا.. صار نصا كونيا، إنسانيا لأنه ارتكز على قيمة إنسانية لا تخص جنسية دون أخرى.. إنها القيمة المركبة، والمفارقة في آن واحد، قيمة التشبث بالأصل والدفاع عنه بكل شراسة، متداخلة مع قيمة التسامح والتعاون مع من يريد استرداد أصله، ولو فقده بالخطأ أو عن طريق الظلم والعدوان.. ولعل شخصية الشيخ في النص المسرحي تجسيد خالص لهذه القيمة المفارقة، لدرجة أنه استطاع أن ينتزع الاحترام والتبجيل حتى من عدوه، الذي اعتبره رجلا محترما كان إيجابيا في السلم كما في الحرب، لأنه ـ في الحرب ـ دافع عن أصله/ هويته/ أرضه.. وفي السلم، ساعد عدوه على استرجاع رفاته/ أصوله، مع أنه في العمق يريد تطهير أرضه الصلبة من هذه الرفات المغتَصِبة..
في الختام، أعترف أن عدم معرفتي السابقة بالصديق عبد الباسط أحمد أبومزيريق هو ثقب في الخريطة المسرحية التي أرسمها للمسرح العربي في مخيلتي.. ومعرفتي به من خلال مسرحية "جنرال الجيش الميت" هو ترميم لهذا الثقب في الخريطة.. كيف لا وعبد الباسط "المشاغب" جمع بين اللغة العربية الأنيقة والحس الدراماتورجي الواعي والجرأة الإبداعية.. ألا يكفي أنه اخترق نص رواية إسماعيل كاداريه ليحيي الكلمات والأحداث وهي رميم؟.
ــــــ
(*) عنوان مسرحية للكاتب عبدالباسط أبومزيريق، صدرت عن دار الفكر العربي ط1، 2009 سوريا.
(**) أستاذ - أستاذ مادة اللغة والثقافة العربيين بالبعثة الثقافية الفرنسية بالمغرب/الدار البيضاء- أستاذ جماليات المسرح ومدارس الإخراج بماستر "الدراسات المسرحية" بكلية الآداب – جامعة ابن طفيل / القنيطرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق