لم تغادر الثقافة في ليبيا ملحق الخدم للأيدولوجية التي لا شريك لها، ولم تتحول بعد إلى صناعة، لأسباب تتعلق بالثقافة الموجهة، والفن والآداب الخادمين تحت اصطلاحات (الثقافة الملتزمة) و(الأدب الملتزم) وهي شعارات لا تعني بالطبع التزامات ثقافية أو أدبية بقدر ما تعني ثقافة خادمة لتوجهات أيديولوجية أحادية الوجه والوجهة، وهو ما انعكس سلبا على المستوى الثقافي حيث تعيش أغلب المنتوجات الثقافية حالة بؤس مدقع، وتعيد تصنيع ذاتها في حالة اجترار مملة ومقززة، وظلت على هذه الحال تقتات على ميزانية الدولة المخصصة للثقافة، وتتقبل منها الصدقات، وهي - بالمناسبة - الميزانية التي تحظى بالدرجة الأدنى في سلم الإنفاق الوطني.. هذه الحالة المَرَضِيّة للثقافة أسهمت في تعطيل المثقف، واختزاله فقط في نموذج بائس يقبل الصدقات الحكومية، ولا يستطيع التحرر من استعبادها، فلا مجال للاستثمار الثقافي ولا مكان لاقتصاد الثقافة في أجندة الدولة، بل ربما لا يجوز حتى الترويج لظهور هكذا نوع من الاسثمار الذي لو سمح له بالتداول فإنه بلا شك سيدعم المثقف ويرفع من قيمة الإنتاج الثقافي كما وكيفا.
الإذاعات الليبية العامة والمحلية تعد نموذجا لحالة البؤس الثقافي هذه، فهي تجر كثيرا من المثقفين في كل برامجها ويقدمون لمستمعيها مادة ثقافية لا يعيرها المستمع غالبا أي اهتمام، ولا ينفق عليها المثقف أي عناء؛ لأنها ببساطة تقدم مجانا خارج نطاق الاستثمار الثقافي، ولا ينبغي للمثقف ولا يحق له أن يطلب مقابل حديثه برامج إذاعية مقابلا ماديا مرضيا بالنسبة له، فالرؤية السائدة في العمل الإذاعي في ليبيا تنص على عدم التعامل مع الشخوص أو المواد الثقافيين باعتبارها موادا قابلة للتداول الاقتصادي، وجُبلت الإذاعة على استباحة المثقف وبخس البضاعة الثقافية، وهي حالة أنتجت نمطا ثقافيا رخيصا، ونموذجا للمثقف الذي يمكنك أن تستمع له وهو يثرثر في برنامج ثقافي، وفي اليوم التالي يحشر رغم أنفه في برنامج رياضي، ليستلذ في المرة الثالثة هذه الإباحية الثقافية فيحشر نفسه في برنامج يهتم بالمطبخ والموضة ووحم النساء، ويتحول إلى زكار ثقافي مجاني مباح لكل من احتاج أن يملأ ساعات البث بالهذر والثرثرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق