ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين

الاثنين، 12 مايو 2008

العاطلون عن العلم

الجامعة هي المؤسسة المسؤولة عن القدرات البشرية العالمة، باعتبارها تضم كفاءات أكاديمية ذات صلة بالعلم والمعرفة، وتعتمد مناهج علمية بانية لا تكتفي فقط باستذكار المنجزات العلمية بل تساهم في التراكم المعرفي الإنساني عن طريق البحث العلمي الدؤوب في أروقتها، أو هكذا ينظر إليها.. هذه النظرة لا تتحقق في مؤسسة تعاني من الإنهاك والأمراض في كامل جسدها، وتعاني مشكلات صحية مزمنة ومعقدة ناجمة عن ركود علمي رهيب، وانغلاق على الذات وامتناع عن الانفتاح على المحيط بألوانه الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل الأدهى أنها باتت منغلقة في نفسها على نفسها، فكل كلية من كلياتها وكل قسم من أقسامها يواصل استخدام برامجه التقليدية دون الانفتاح على بقية الأقسام العلمية، فضلا عن تبادل المعرفة معها.. وبعيدا عن مبدأ التعميم، سأتخذ منهج اللغة العربية للمتخصصين نموذجا لاستعراض بعض الأدواء التي تنهك الجسد الجامعي المتهالك علميا. منهج اللغة العربية للمتخصصين يعيش مشكلات متعددة تحولت إلى متأزمة بفعل الركود العلمي الذي تنعم به مؤسساتنا الجامعية، فانطلاقا من أهداف دراسة اللغة العربية وتدريسها للمتخصصين لا يمكن الاهتداء إلى أهداف غير الهدفين الديني والقومي التقليديين البديهيين، والضبابيين أيضا، فلا وجود بشكل صريح وواضح لأهداف المقررات وغاياتها اللغوية، والثقافية، والاجتماعية، ما أثر على شكل ومضامين المقررات الدراسية.. المشكلة نفسها تتكرر على مستوى المقرر بسبب استنساخ المقرر من مؤسسة دينية هي (الأزهر) حيث استعار الآباء المؤسسون المنهج الأزهري عند تأسيسهم الجامعة الليبية، وهذا قبل أكثر من نصف قرن، ما جعل المنهج مطبوعا بالطابع الديني المتخذ من اللغة وسيلة و(آلة)، وهو ما أفرز تصنيف مادة كـ(النحو) في خانة (المواد المعقدة..!!) ورفع من أهمية شعارات (تبسيط النحو) باعتباره (من علوم الآلة) وهو ما يتناقض مع دراسة اللغة ومفهوم التخصص، كما أن محتوى أغلب المقررات يعد اجترارا ساذجا وسطحيا لما سبقت دراسته في المراحل التعليمية الأولى (الأساسي والثانوي)، وهو إعلان عن حالة فقر وعوز، لا تسمح بالاستفادة من نظام التراكم المعلوماتي. كما تفقد هذه المقررات الرؤية الاستراتيجية للمعرفة الموصوفة بالعلمية، وتفتقر إلى خصائص المنهج الجامعي، الذي من سماته التعلم الذاتي، والبحث، والتنقيب، فالمقرر لايعدو أن يكون مجموعة من الملازم أو الكتب لا تدفع الطالب الجامعي إلا إلى استذكارها وحفظها والاعتماد على المعرفة السطحية دون أن يزود الطالب بمهارات البحث والقراءة، وملاحقة العلم والمعرفة، بالإضافة إلى أن كثيرا من الأساتذة يعيشون حالة تيه علمي، بسبب عدم وضوح الرؤية المتعلقة بأهدافه العلمية، وعدم القدرة على استيعاب متطلبات المرحلة العلمية التي يفترض أن يعيشها، كما أن كثيرا من طلاب قسم اللغة العربية يعتقدون أن ما يدخل ضمن ما يطلق عليه (اللغة العربية) لا يخرج عن فروع المواد الدراسية التقليدية المجترة، وهو ما ينتج عنه صدا ورغبة عن التفاعل مع غير المعهود لديهم. لا تعيش مناهج اللغة العربية تلك المشكلات الداخلية فقط، ولكنها تواجه إشكاليات خارجية دفعت بها إلى هذا الوضع المرضي المتأزم، وساهمت في تحوله إلى عدوى قد يصح وصفها بالجامعية، فعلى مستوى المناخ السياسي مثلا - وهو الإشكال الأهم بين الإشكاليات الخارجية– نجد ارتجال الأمانة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي وتسرعها في اتخاذ قرارات تتعلق بالمناهج وإعدادها، كما حدث في 2006 عندما استدعي رؤساء الأقسام بالكليات الجامعية لاجتماع عاجل في مدينة سبها وتم إبلاغهم بضرورة إعادة صياغة هيكلة نظام الدراسة الجامعي، وصياغة المناهج الجامعية في غضون يومين وتمت المحاججة بأنه أمر سيادي....!!! ومن العجيب أنهم استجابوا لهذه النزوة غير العلمية مع أن كثيرا منهم يحمل حسب المستندات الرسمية صفة: أستاذ...!! هذا بالإضافة إلى أن إيفاد الدارسين للبلدان العربية التي تعيش شللا علميا (والإصرار على ذلك ) لغايات ومنافع لا علاقة لها بـ(العلمية) يعد معوقا أمام التنمية اللغوية والبحث اللغوي؛ ففاقد الشيء لا يعطيه. هذه الحالة المرضية لواقع اللغة العربية للمتخصصين يمكن – وبكل ثقة – إسقاطها على أغلب الأقسام الموصوفة بالعلمية في جامعاتنا العتيدة التي تفتقد إلى المراجعات العلمية الدورية في المناهج والمقررات الدراسية خاصة المتعلقة بالعلوم الإنسانية، ولا تسمح بالرقابة العلمية على جامعاتنا لتقويم برامجها ومناهجها وأبحاثها وتجهيزاتها من قبل مؤسسات مستقلة دولية، وتطرح بسخاء كل عام آلاف العاطلين عن العلم.. فضلا عن العمل.

هناك تعليقان (2):

  1. نهلة

    هذه الأزمة للمتخصصين ولغير المتخصصين
    جميل,,حفظك الله

    ردحذف
  2. ابدعت والله
    واحسنت
    واجدت التعبير
    شكرا لك

    ردحذف