محمد مليطان
تتعدد أسباب الهجرة المعاصرة، ولكنها بشكل عام تندرج تحت ما يمكن اعتبارها ظروفا غير ملائمة في البلد الأصل، سواء أكانت هذه الظروف معرفية أم اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية. وبالإمكان الادعاء بأن ثقافة الهجرة هي ثقافة عالمية إنسانية، لا تقتصر على شعوب بلدان العالم الثالث، ولا تختص بها البلاد الفقيرة والفقراء، فكل بلدان العالم تستقبل مهاجرين من أجناس أخرى، ويهجرها في الوقت نفسه أبناؤها إلى بلاد أخرى يحققون فيها أحلامهم التي لا يمكن تحقيقها في البلد الأصل، إضافة إلى أنه من المهم عدم اختزال الهجرة في كونها ثقافة ذات طابع اقتصادي محض، وإن كان هذا الدافع هو الأبرز والأقوى بين الدوافع الهجرية الأخرى.
الشعوب العربية وحكوماتها، على حد سواء، تقف بشكل عام موقفا خشنا من الهجرة، يدعم هذا الموقف مفاهيم اجتماعية وأيديولوجية تم ترويجها عبر خطاب يعتبر الهجرة مصدرا أساسيا للتلوث الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يهدد المجتمعات العربية فيما اصطلحت تسميته: الأمن الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهو ما تعتبره الدول العربية رمز سيادتها وعزتها وشموخها..! ما دفع في اتجاه تأسيس أجهزة «أمنية» لمكافحة الهجرة «السرية» من دون الاهتمام، أو حتى الالتفات إلى أهمية إقامة أجهزة «علمية» استثمارية تعنى باستثمار الهجرة، وبحث سبل شرعنتها ونقلها من حالة «السرية» غير المشروعة إلى حالة «الجهرية» ليست المشروعة فقط، بل المرحب بها.
الترحيب بالهجرة ليس لكونها مصدر تدفق الأموال على بعض الدول من عرق وجهد أبنائها المهاجرين، واعتبار هذا التدفق مصدرا مهما من مصادر الدخل الوطني العام، بل لكون المهاجرين قادرين على فعل التغيير في البلاد المهاجر منها والأخرى المهاجر إليها على حد سواء، حيث تستقبل البلاد المضيفة أدمغة وخبرات وطاقات ومهارات تضيف إليها من حمولتها، وتعود إلى بلادها الأصل بحمولات معرفية ومهارية تم اكتسابها عمليا، وهو ما تعجز عن منحه لطلابها الغالبية العظمى من المؤسسات التعليمية العربية الفاقدة لأبسط مقومات صفة «التعليمية».
الحكومات العربية وشعوبها مطالبة الآن أكثر من أي وقت مضى بالاهتمام بالهجرة وتشجيعها والتعامل معها، باعتبارها فعلا ايجابيا ينبغي دعمه، وليست سلوكا سلبيا يتوجب قمعه، بل ربما من الواجبات المستجدة على الحكومات، لا أن تحترم حق الإنسان في الانتقال فحسب، بل عليها أن تشجعه على الهجرة وفق برامج علمية لن تكلف الدولة تأهيل المهاجر بحجة إعداده ليكون قادرا على الفعل الإيجابي مع محيطه الجديد والثقافة المستضيفة، ولكن بتسهيل الهجرة أمامه وإرشاده إلى أفضل البلدان مناسبة له، بدلا من الهجرة العشوائية، مع ضمان سلامته وتسهيل عودته لوطنه متى شاء. وبهذا لا يفقد ارتباطه بالوطن الأصل، ولا يشعر بالضعف والتهميش في الوطن الجديد، وهو ما قد يتطلب الاشتغال على مفهوم «الوطن»، بحيث تتم إعادة صوغ هذا المفهوم ليصبح صالحا لأن يكون متعددا لا وحدانيا، كما هو سائد في الثقافة العربية.
يمكن الزعم هنا بأن إسهام الشعوب في المعرفة الإنسانية سيقاس بمقدار إسهامها في حركة الهجرة الدولية، بسبب إسهام المهاجرين في التبادل الثقافي والمعرفي وإخراج مجتمعاتهم من الانطوائية والعزلة. وهو ما يدفع في اتجاه أن ينظر إليهم كفاعلين إيجابيين، لا على مستوى أوطانهم فحسب، بل على مستوى التقارب الثقافي بين الشعوب. هذا التوجه يلقي بمسؤولية ثقافية على الحكومات العربية ومجتمعاتها تتمثل في العمل على إلقاء الحمولة السلبية عن كاهل اصطلاح «المهاجرين» ورصفها بمحاذاة مطابقتها الاصطلاحية في التراث الإسلامي، حيث تعتبر «الهجرة» رمزا يستحق الاحتفاء والتأريخ والاحتفال به عند رأس كل سنة.
------------
نشر بصحيفة أوان الكويتية الثلاثاء 2009/12/22 العدد:756
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق