محمد مليطان
تعيش ليبيا في السنوات الأخيرة أجواء إعادة ترتيب البيت الليبي، عبر عدد من المراجعات للسائد من مفاهيم وأطر وتكوينات لها علاقة بالسياسي أو الثقافي أو الديني، هذا التحول، الذي لايزال في طور المخاض، يندرج من ضمن ما يطلق عليه «مشروع ليبيا الغد»، الذي يقوده سيف الإسلام القذافي، وهو مشروع يوصف بأنه «إصلاحي». وعرف عنه -أي المشروع- اهتمامه بتوجيه خطابه إلى فئة الشباب في الدرجة الأولى، ما جعل منه مشروعا تعبويا وحماسيا يفتقر إلى أسس نظرية ومنهجية تؤطره، وهو ما انعكس في مظاهر عديدة اتسمت بالارتجالية والعشوائية، على الرغم من اعتباره من قبل المريدين له والأنصار مشروعا واعدا وإن تخللته عثرات. من هذه الهفوات ذات البعد الارتجالي أن رئيس جمعية حقوق الإنسان في ليبيا، التابعة لمؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية، الكاتب الصحافي محمد طرنيش، كتب مقالة طالب فيها الدولة الليبية بإعادة بناء وظيفة «المفتي»، مقترحا شكلين لهذه الوظيفة، يمكن أن تتمثل فيهما، وهما: «مجلس الإفتاء الأعلى»، أو «هيئة العلماء».
وبالطبع، فقد باركت هذا الاقتراح شخصيات فقهية ليبية، وهو أمر طبيعي، والأكثر طبيعية أن تطالب بهذه الوظيفة ذات الصبغة المتصلة بالسلطة الدينية شخصيات فقهية شعبية، لكن المفارقة واللامنطق، هي مطالبة الأستاذ طرنيش باستحداث هذه الوظيفة الدينية الرسمية؛ وذلك لكونها لا تنسجم مع أدبيات ومفهوم «حقوق الإنسان»، التي يترأس طرنيش جمعيتها في ليبيا، بل تتعارض معها، من حيث أن وظيفة «المفتي» إصدار الفتاوى الإلزامية الموصوفة بـ«الرسمية» و«الحكومية»، التي من شأنها أن تُكره الناس وتجبرهم على الخضوع لها. تأتي هذه المطالبة غير الحقوقية في وقت باتت فيه المجتمعات الإسلامية تقترب من نيل استقلالها من سلطة المؤسسة الدينية المؤطرة سياسيا، بعدما أخضعت ردحا من الزمن لسلطة وظيفة المفتي التقليدية التي اكتسبتها، منذ أول ظهور رسمي لها في ظل الدولة العثمانية الآفلة، غير أن دولاب القطار الإصلاحي في ليبيا يدور بطريقة معاكسة، على ما يبدو، في هذه الواقعة تحديدا. في هذا المقام، لا يمكن الفصل بين تبني مفهوم حقوق الإنسان على المستوى الشخصي، وبين تقلّد مهام وظيفية رسمية معنية بهذا المفهوم، فمن يتقلد منصبا حقوقيا، لا بد أن يكون -من باب أولى- مؤمنا بالمبادئ الحقوقية التي يتبناها هذا الموقع، لكن مطالبة محمد طرنيش، رئيس جمعية حقوق الإنسان في ليبيا، لا تسير وفق هذا الاتجاه، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينص على أن لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء من دون أي تدخّل، وهو ما يتعارض مع وجود وظيفة «المفتي»، المنعوتة وظيفته هذه بأنها «النيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم»، ومن سيجرؤ بعد ذلك على مخالفة نائب رسول الله في فتواه؟
علاوة على ما في المطالبة باستحداث منصب «مفتي ليبيا» من سلفية ثقافية ودينية وسياسية، فإنه يطرح إشكالا ولا يحل مشكلا.. يطرح إشكالا بخصوص التعددية الفكرية والدينية التي باتت الدول المعاصرة تتبناها كقيم أساسية للدولة، ولا تحل المشكل المتمثل في اختلاف الناس ومخالفتهم الدولة، فيما يخص الشأن الديني. فالدول التي تتوفّر على هذه الوظيفة الدينية الرسمية، بل وكذلك الدول القائمة على أسس موصوفة بأنها دينية، لم تستطع منع اتباع الناس «سرا» لفتاوى وافدة من خارج حدودها، واعتناقهم اتجاهات ومذاهب لا تتمتع باعتراف رسمي من «المفتي» أو الدولة، وهو أحد الأسباب الرئيسة التي بُنيت عليها المطالبة بإنشاء منصب رسمي للسلطة الدينية في ليبيا.
------
نشر بجريدة أوان الكويتية.. الأحـد 2009/12/13 العدد:747
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق